زين الدين زيدان

عندما بدأنا بمتابعة كأس العالم في منتصف التسعينيات من القرن الماضي بشكلٍ كامل أصبح لكلٌ منّا مملكته.. نظراً لتوفر أجهزة التلفزيون في مدينتنا حيث دخلت كل البيوت ولم يعد هذا الجهاز حصراً على بيت أو عائلة ميسورة الحال أكثر من غيرها بالعمارة أو البيت.

ثم وصلنا لمونديال فرنسا 1998 لنرى ونبحث عمن يشبهنا من كل هذه المنتخبات المختلفة التي يوفر لنا هذا الجهاز مشاهدتهم وهم يمثلون مختلف قارات العالم..هذا الجهاز كان يُمثل عالماً جديداً يعيش بداخله كله مواطن أحلامه ويجتر معه ذكرياته.

فنحن العرب بطبيعتنا التي تجمع بين العاطفة والمشاعر الحادة نبحث في هذه المواعيد عمن يذكرنا بأنفسنا وبماضينا الكبير لنفخر ونستزيد من ذلك العذاب الجميل والألم الصحي الذي يخبرنا بشكلٍ خفي أننا لنا تاريخ وحضارة..وحتى أبنائنا في الخارج يمكنهم أن يحققوا المعجزات.

من بين هؤلاء الأبناء كان لاعب منتخب فرنسا زين الدين زيدان وهو مولود في مارسيليا الفرنسية وعاش بها..لكن أرض أجداده بقيت في رأسه وموجودة بين ثنايا اسمه..فهو ابن قرية أقمون آث سليمان في ولاية بجاية القريبة من الجزائر العاصمة..ولذا لم يكن لأي مشاهد عربي أن يُفكر مرتين قبل أن يصرخ فرحاً مغتبطاً وسعيداً بابن محاربي الصحراء.. وكنت أرى رجلاً كهلاً وهو يُمني النفس بأن تسقط هيمنة البرازيل أمام زيدان.

تعاظمت شعبية زيدان بعد انتقاله من يوفنتوس بطل الدوري الإيطالي والذي كان يملك فريقاً عظيماً إلى نادٍ آخر يملك أمجاداً وتاريخاً عظيماً وشعبية عالمية لا تضاهى وهو ريال مدريد..وعندما تألق مع الريال وحقق البطولات وألهم الجميع بمراوغاته وتمريراته ورؤيته الفذة للملعب أصبح نجماً لهذا الجيل كله..ليس فقط للريال ولا لليوفي ولا للعب..بل أصبح زيدان ماركة مسجلة باسم الأناقة الكروية.

زيدان مع أليكس دل بييرو زميله القديم في يوفنتوس ومع راؤول محقق الإنجازات معه في ريال مدريد..والمرشح لخلافته حالياً

زيدان مع أليكس دل بييرو زميله القديم في يوفنتوس ومع راؤول محقق الإنجازات معه في ريال مدريد..والمرشح لخلافته حالياً

زيدان الذي كان حظه من اسمه وأرض أجداده كبيراً حافظ على نفس معدلات الحظ السعيد عندما أصبح مدرباً لأول مرة للفريق الأول لنادي ريال مدريد حيث حقق معه لقب دوري الأبطال 3 مرات على التوالي في إنجاز خالد سيحفظ به اسمه في سجلات الرياضة واللُعبة لعشرات السنين والعقود، وإذا ما كررت كلمة حظ في هذه المقالة الأدبية البسيطة فهذا يعني أن لزيدان كرامات وأموراً غير مفهومة قادته للنجاح في الريال..وتلك الأمور تعتبر مُنصفة وعادلة إذا ما نظرنا لها بعين الحياد.

وإن كنت أكره كلمة الحياد، نعم فهي مُخلة وتختزل الكثير من الأمور..لأنه لا يمكن أن تنجح في إدارة غرفة ملابس أهم نادٍ في العالم إذا لم تكن مُقنعاً لهم..ولن تنال التوفيق إلا عندما يكون لديك أسبابه وقد كان زيدان بالفعل يملكها ويملك الشخصية التي تملك الهيبة والاسم الذي يجعل النجوم توقره وترفعه إلى أعلى مقام وتنفذ أسلوبه وطريقته في الملعب بالشكل المطلوب.

حتى وإن كان الأسلوب الذي قاد الريال للإنجازات الأوروبية بسيطاً ولكنه يملك البساطة المُقنعة تشربها عندما كان في فريق بوردو الذي هزم ميلان منتصف التسعينيات ومن مدربيه في يوفنتوس مارتشيلو ليبي وأنشيلوتي، فلسفة بسيطة تلك التي هزمت فرقاً تملك تعقيداً تكتيكياً مبالغاً به مثل أتلتيكو مدريد سيميوني ويوفنتوس ماسيمليانو أليجري.

أين أخفتم بوصلتي ؟

الرجل الخاص للكأس ذات الأذنين..ما الذي كان يقوله لها؟

الرجل الخاص للكأس ذات الأذنين..ما الذي كان يقوله لها؟

لكن الأمور الآن انقلبت رأساً على عقب..فلقد تداعت الأشياء وأسقط في يده.. ففقد زيزو حظه منذ عودته منتصف الموسم الماضي 2018/2019 لانتشال الريال من وضعه الصعب..لأنه وجد الفريق وقد تعاظمت سلبياته التنظيمية والدفاعية..وتفككت امبراطوريته التي تركها بعد رحيل كريستيانو رونالدو وفقدان بعض من النجوم لبريقهم ولتميزهم الفني، وخسر زيدان أيضاً الدعم الكافي من الرئيس فلورنتينو بيريز لقراراته في السوق فانتهى الأمر به مع لاعبين لا يرغب بهم وهم كذلك انتقل لهم ذلك الشعور السلبي لنفاجىء بإبعاده لهم أحياناً وإعادتهم في أحيان أخرى للتشكيل.

وصل الحال إلى أن صاحب الطالع السعيد والذي كان يملك ثقة كبيرة في خطواته أصبح متعثراً وغير واثق مما سيفعله اليوم أو غداً عندما يواجه مناقسيه المباشرين في إسبانيا أو أوروبا..فلا التشكيلة متناغمة ولا الأمور القدرية التي كان متعوداً عليها في صفه.

وأنا أذكر هنا مقالاً كتبته قبل ثلاث سنوات عن فتى مارسيليا.. ابن المهاجر الجزائري والذي رأيت أنه لم يكن لاعباً مثالياً لكنه كان على أرض الملعب يعرف كيف يستغل مهاراته في ترجيح كفة فريقه في أي مباراة بأناقة وبساطة غريبة..هذا الشىء نفسه هو الذي نفذه كمدرب وأعد لاعبيه للتألق بعد فترة صعبة كانت مع المدرب رافائيل بينيتيز..لذا فزيدان لم يكن ذلك الرجل البسيط المحظوظ الذي تنظر له بل هو يملك بداخله الكثير من التعقيدات والخطط التي جعلته أخيراً قادراً على أن يصطدم برئيس النادي بيريز بعد سوق صيفي مضطرب وغريب..وبعد كل هذه النجاحات..ما الذي تركه ابن الصحراء وتناساه في مكانٍ ما لتنقلب الأمور عليه إلى هذه الدرجة؟!..أين ذهبت بوصلته.

في الشتاء..في الصيف..في الربيع والخريف..أنا دائماً حاضر

إلى أين يا زيزو أم أنك تجهل المصير؟

إلى أين يا زيزو أم أنك تجهل المصير؟

في النهاية وبعد هذا المقال..قد ينجح زيدان في إعادة تدوير وتشغيل ريال مدريد إن صًح القول وخلق المنظومة التي يريدها ربما في منتصف الموسم أو في المرحلة الحاسمة منه، وربما لا..لكن هذا لن يُغير من حقيقة أنه الرجل الذي تقف أمامه وأنت تشعر بالهيبة المستمدة من تاريخه وكونه رجل كل الأجيال والمواسم والحظوظ..والرجل الذي يخضع له النجوم..تلك التركيبة العجيبة لا تتوفر في هذا الكوكب كثيراً، لا أعتقد.

هو الرجل الذي شهد الريال وهو منكسر كلاعب وشاهده وهو مزدهر في مواسم الربيع والصيف والشتاء..وهو كذلك من قاده في كل تلك المواسم سواءاً كان موسماً بارداً صعباً وجافاً..أو كان حاراً مشتعلاً وسعيداً..يملك في مخزونه وتجاربه ما يكفي لكي يعرف كيف يتعامل مع هذا الموقف الفني المتأزم..ويملك كذلك في قراراته رسالات يبعث بها لرئيس النادي أو في الصحافة أنه الحاكم بأمره في مدريد..ولن يقبل سوى بذلك.