بول بوجبا ومحمد منير

أسمر شقي خفيف الظل في داخل الملعب يعتقد كما لو أنه عصفور، وأحيانا ينسى أن لاعب الكرة لا يلهو في الحديقة مثل طفل ولا يملك تلك الحرية التي يظنها.

لا يعرف العصفور كلمات مثل واجبات مركز ومعدل التمريرات واسترجاع الكرات وكل تلك الدنيا الرقمية التي صُنع لأجلها وكالات ومنظمات ترصد اللاعب كأنه روبوت والشئ العجيب أنه لم يمكث في مانشستر يونايتد كثيراً بعد ان عاد إليه كملك ..وذلك بعد أن طرد منه صغيراً بالمجان، ففي العادة يتلهف الطائر في العودة إلى عشه الأول الذي بناه بمنقاره الضئيل.

ولكن بول بوجبا لم يبن عشه في اليونايتد بالمعنى الأكيد لأنه عاد إليه منتصراً بالفعل وبطل في مكان آخر مع بعض الأفذاذ وقدامى اللاعبين وكانت مهمة قيادة العديد من اللاعبين الشبان في إنجلترا صعبة عليه فهو نفسه يحتاج لمن يُقلم له أظافر موهبته التي تصبح مضرة في لقطة ما أثناء مباراة ما ولذا فإنه جاء له الشعور بالحنين لأيام الحرية التي أعطاها له كونتي في تورينو وينشدها كذلك مع مواطنه زيدان في مدريد.

تعكر مزاج بوجبا إن كان بإمكاني قول ذلك فعندما نتحدث عن أمور تكتيكية وفنية في اللُعبة لا يجب أن تذكر كلمة مزاج أو هكذا تعلمنا.. لكن هذه هي دماغ بول.

GettyImages-1130559769 (1)

كانت الشهور الأخيرة قاسية وطويلة على الولد الفرنسي في ملعب الأولد ترافورد..طويلة بالمعنى الحرفي وبالمعنى المعنوي وجد صعوبات عدة وخاصة مع التقييد التكتيكي والفني للمدرب جوزيه مورينيو الذي رحل في منتصف الموسم الثالث لبوجبا في فترته الثانية مع مانشستر وبمقاييس كرة القدم الحديثة فالبراعة التي لدى بوجبا في المهارة لن تعني شيئا إن لم يلازمها الالتزام والسلوك الصحيح في الملعب، ومورينيو يمثل عصارة كرة القدم الحديثة.

وتلك كانت مشكلته حتى في عامه الأخير في الكالتشيو على وجه التحديد وربما لذلك كان خروجه منطقيا وابتعاده عن سيدته العجوز التي قامت برعايته بعد موسمين إضافيين مع مدرب معقد تكتيكيا مثل اليجري.

هذا هو بوجبا الذي أظهر في كأس العالم قدرة وتحمل وصبر عندما كان في مهمة مع منتخب بلاده لشهر اكتملت بالتتويج بلقب كأس العالم..لكن أن تظل نفس الفتى الصبور الذي لا يلقي بالاً إلا لرغبته في اظهار مهاراته وحسه الراقص بالكرة..فهذا صعب لبول.

فبوجبا ليس هذا الفتى الذي يستطيع ان يعيش في ذلك الفضاء الضيق الذي يريده منه المدربين ولا يناسب هذا الأيجو للفنان الذي بداخله بل هو يرى نفسه قادر على أن يرتفع لمصاف الأساطير ممن داعبوا الكرة وتلك هي المعضلة يا صديقي..ملعب الكرة مثل معسكر جيش في بعض الأحيان عليك أن تعرف دورك.

الشاعر المصري عبد الرحيم منصور غنى  له المطرب محمد منير كلمات رقيقة تقول “سيبوني أتوه وحدي عطشان أنا عطشان الدنيا توب قدي ومطيقش انا الغيطان”، وربما تكون الأكثر دقة في التعبير عن حالة نجمنا الفرنسي موضوع مقالي اليوم.

GettyImages-1157645675 (1)

إنه يرى ملعب الكرة مثل الدنيا عليه أن يتناقل فيها الكرة بطريقته وأن يضع لمسته أحياناً في تمريرة وحركة خداع مختلفة وعليه أن يكون ملىء بالتجليات، وفي بعض الأحيان فإن الكرة أسهل من ذلك بكثير وبالتأكيد فرغم عظمة بول الفنية ربما لا يليق بفريق يلعب كرة قدم إسبانية كاتالونية بحتة مثل برشلونة أو مانشستر سيتي..ليس الأمر وكأنني ضد الفكر الجوارديولي ولكن ستكون لديه نفس المشكلة مع أي مدرب لديه استراتيجية واضحة لا تتغير في أفكار إدارته للمباريات واللاعبين.

لا يطيق الطائر الآن المكوث أكثر في مانشستر الذي يحاول نمذجة نفسه مع مدربه سولشاير مع طريقة لعب جديدة فيها الكثير من فلسفة الاستحواذ والتمرير القصير المتقن..ولذا نعم ، فلتجعلوها تتم  وربما هذا حل صالح للطرفين..تجربة جديدة في مدريد مع غطاء فني وتكتيكي أعلى ممدود من بعض اللاعبين سيجعله يعود للطيران دون كثير من الحسابات..في اليونايتد أرادوه قائداً ولكنه يبحث على ان يكون خالق لإبداع وحاسم -احيانا بمفرده- وتلك كانت اللمحات التي نعرفها عن لاعبي ازمان سابقة..فهل تفتح مدريد الاحضان لطائر حزين؟