ماني وفان دايك يتوسطان جوارديولا وكلوب

موقع سبورت 360 – لم ننتظر طويلاً حتى نفهم ماذا يجري على أرض الملعب، 6 دقائق فقط كانت كفيلة بأن تعطينا التصور الشامل عن قمة الدوري الإنجليزي بين ليفربول ومانشستر سيتي ، فعلى الجانب الأحمر نحن أمام فريق مستعد جيداً، يعرف ما الذي يريده فعله في الملعب دفاعياً، وما الذي يجب فعله حين امتلاك الكرة، فريق هادئ ومنضبط، مقابل منافس أزرق متوتر، قلق، خائف، مرتبك، بل أيضاً لديه أخطاء فادحة تكتيكياً لدرجة أن فابينيو لاعب ليفربول حصل على مسافة شاسعة لكي يسدد بكل أريحية بدون أن يضايقه أحد!

وإن كنا نشك في هذا الاستنتاج عند الدقيقة السادسة، فالشكوك تبددت تماماً وتأكدنا من صحة المعادلة السابقة عندما أطلق محمد صلاح خنجره في كبد بيب جوارديولا ممزقاً مرماه إلى أشلاء، ليفربول خرج بالكرة تحت ضغط لاعبي مانشستر سيتي، ثم قام بهجمة منظمة وكأن مهندس رسمها على الورق قبل النزول لأرض الملعب، ليأتي الهدف الثاني وسط ذهول بيب ولاعبيه.

خروج مانشستر سيتي من أجواء النزال مبكراً، وسيطرة ليفربول المطلقة عليه، تعيد لنا ذكريات العديد من المواجهات السابقة بين بيب جوارديولا ويورجن كلوب، المدرب الإسباني “على غير عادته” ظهر متحفظاً أمام كتيبة الريدز في أكثر من مناسبة، فحتى حينما تفوق بنتيجة 2-1 الموسم الماضي في ملعب الاتحاد لم يقدم مباراة عظيمة هجومياً وهو شيء غير متوقع من الفرق التي يتولى بيب تدريبها.

هذه الأفكار الأولية تجعلنا نتساءل، ما الذي يحصل لبيب جوارديولا أمام يورجن كلوب؟

ليس فقط مباراة ليفربول ومانشستر سيتي .. كلوب يتفوق في المواجهات المباشرة

قبل الدخول في كواليس الصراع بين جوارديولا وكلوب، يجب الإشارة إلى أن تفوق الألماني على الإسباني ليس مجرد تخيلات، بل هو حقيقة واقعة بلغة الأرقام، فخلال 18 مواجهة جمعت المدربين حقق مدرب ليفربول 9 انتصارات بنسبة نجاح تصل إلى 50% ، فيما حقق مدرب السيتي 6 انتصارات بنسبة 33.3% ، وحل التعادل في 3 مناسبات.

هذه النتائج تصبح أكثر إثارة حينما نعلم بأن كلوب لم يكن يملك تشكيلة منافسة في الكثير من المباريات التي واجه فيها بيب جوارديولا خصوصاً فترة تواجده في بوروسيا دورتموند (وفي موسمه الثاني مع ليفربول)، لا نقول بأن دورتموند كان ضعيفاً، لكنه بكل تأكيد لم يكن بقوة بايرن ميونخ على صعيد الزاد البشري والشخصية.

أما على صعيد النتائج الساحقة، فمدرب برشلونة السابق يملك انتصاراً تاريخياً على حساب المدرب الألماني بخمسة أهداف دون رد، وإن كانت ظروف تلك المباراة فريدة من نوعها كون ليفربول أكمل اللقاء بعشرة لاعبين منذ الدقيقة 37 بعد طرد ساديو ماني.

بل هنا نجد أيضاً أن كلوب متفوق لأنه حقق 3 انتصارات بنتائج عريضة على بيب جوارديولا، الأولى كانت في كأس السوبر الألماني 2013 بنتيجة 4-2، والثانية في إبريل 2014 بنتيجة 3-0 ، والثالثة إبريل 2018 بين ليفربول ومانشستر سيتي بنتيجة 3-0 أيضاً. إذاً لغة الأرقام تكرس تفوق يورجن على بيب.

مصافحة بين بيب و كلوب بعد المباراة

اهزمهم وحطمهم نفسياً! خُبث جوارديولا الذي يواجهه كلوب بالضحك ثم الافتراس

حينما تبدأ بتحليل فلسفة بيب جوارديولا ستجد نفسك أمام بحر شاسع من العلم الكروي الفريد من نوعه، علم يفاجئك، يسحرك، ويجعلك مذهولاً من روعته وجماله وتعقيداته.

وربما يظن الكثيرون أن جوارديولا يرتكز على العلم الكروي التكتيكي والفني فقط، لكن هذه الحقيقة مغلوطة، فالمدرب الإسباني لا يترك شيئاً إلا حاول تحسينه، فمثلاً مع مجيئه إلى مانشستر سيتي قام بمنع تناول البيتزا بعد التدريبات رغم أنها عادة متبعة في السيتي منذ سنوات، بل سارع في منع العديد من المواد الغذائية والتي وصلت إلى حد الكاتشب! طبعاً، بيب كان يعرف بأنه مدرب متطلب كثيراً من لاعبيه، وحتى يستطيع اللاعبون تنفيذ ما يريده فيجب أن تكون لياقتهم البدنية في أفضل حالة ممكنة، لذلك اتجه نحو تنظيم العادات الغذائية بمساعدة خبراء متخصصون ضمن جملة التصحيحات لتحسين الحالة البدنية.

حسناً، ما علاقة هذا في ما نريد قوله هنا؟ في الحقيقة هو ليس له علاقة مباشرة، لكنه يوضح كم يدقق بيب على التفاصيل، لذلك حينما ننتهي للقول بأن “العامل النفسي” هو من أبرز الأمور التي كرست تفوق جوارديولا على معظم منافسيه من المدربين في السنوات الأخيرة، فحينها لا داعي من الاستغراب.

جوارديولا لطالما عمل على تحطيم المنافسين نفسياً في 3 محطات، أولاً لم يدخر أي مجهود في تمزيق شباك الضعفاء وعدم الرأفة بهم لخلق حالة قلق لدى المنافسين المباشرين قبل مواجهتهم، حتى وإن كانت عملية عدم إدخار المجهود ستضر بفريقه على المدى البعيد بدنياً (فلسفة: اجعلهم خائفين حتى يصابوا بالشلل).وثانياً، عبر تقديم أداء كروي معقد يصعب مجاراته مما يشعر جميع المنافسين بأنهم يواجهون خصماً خارقاً للعادة بل قادم من عصرٍ آخر، وثالثاً السيطرة على المنافسين المباشرين في الملعب عبر الاستحواذ وحرمانهم من الكرة في المرحلة الأخيرة من مرحلة التمزيق النفسي.

من هنا نفهم السبب الأول لمعاناة بيب _في معظم الأحيان_ أمام الفرق التي يدربها كلوب حتى لو كان يملك جودة أعلى داخل فريقه، فالمدرب الألماني أول شيء يضيفه لأي فريق يدربه بأن يجعله بشخصية أقوى، واثقاً من نفسه، لا يخاف ولا يهاب أحداً مهما كانت جودة المنافس. كلوب يطلب من فريقه أن يلعب الكرة كما يحب وليس كما يريد المنافس، وبهذه العقلية يصعب على بيب أن يخيفهم.

جوارديولا-ليفربول

جوارديولا لم يستطع خلق حالة تفوق نفسي على فرق كلوب، بل بتنا نشعر مؤخراً أن يورجن هو المتفوق نفسياً بشكلٍ واضح، وذلك في الحقيقة غير مرتبط بمواجهات المدربين، بل مرتبط بشكلٍ مباشر بشخصية يورجن وطريقة فهمه للعبة كرة القدم في الملعب وخارجه.

بعد نهائي دوري أبطال أوروبا 2013 بين بايرن هاينكس ودورتموند كلوب، خرج جوندوجان بتصريح يظهر لك روعة يورجن في هذا الجانب، اللاعب الألماني قال “نحن نشعر بالمرارة لخسارتنا لأننا نعلم بأننا أكثر فريق قادر على هزيمة بايرن ميونخ“.

تصور معي، لاعبو دورتموند لم يشعروا بأنهم فريق يصل لأول مرة إلى نهائي دوري أبطال أوروبا، لم يشعروا بأنهم أمام منافس عملاق تفوق على أقوى فريقين في تلك الحقبة (برشلونة وريال مدريد) بل كانوا مؤمنين بأنهم أفضل من البرسا وأفضل من الريال ويستطيعون قهر الفريق البافاري! أي عقلية هذه؟

ربما نستخلص نفس المعلومة من حوار كلوب مع سكاي سبورت قبل مباراة الأمس “الأهم أن لا نخسر المباراة؟ ربما من يقول ذلك أذكى مني، لكن بالنسبة لي لا أقيس الأمور بهذه الطريقة، أنا أقول أن هذه المباراة يجب أن نفوز بها. عليك في هذه المباريات أن تفعل الأمور بشكلٍ صحيح مرة تلو الأخرى: كن شجاعاً، إلعب كرة القدم، ودافع عن حياتك”.

نعم، هنا يحول كلوب كل الرعب الذي يبثه جوارديولا بالمنافسين إلى مهرجان من الضحك الساخر، فرغم تفوق ليفربول بفارق 6 نقاط لكن المدرب لا يفكر بأن التعادل جيد له، بل يجب تحقيق الفوز، لا يوجد استراتيجيات سوى أن تلعب كرة القدم كما تحب وتعرف، الاستراتيجية الوحيدة “أن تكون شجاعاً”.

كلوب تحدث عن الشجاعة، ولعب كرة القدم، لم يتحدث عن الدفاع عن المرمى بشكل رئيسي، ربما يظن البعض أنني أقصد القول بأن الدفاع وسيلة ضعيفة، بل على العكس، إن لم تعرف كيف تدافع ضد فريق مثل مانشستر جوارديولا فسوف تتلقى هزيمة ساحقة، لكن المقصود هو العقلية، فكلوب يهيئ فريقه نفسياً أولاً نحو الهجوم، تسجيل الأهداف، الفوز، وهو ما يتطلب بالنهاية أن “تدافع عن حياتك”.

هذه العملية معقدة، ليس من السهل أن يوصلها المدرب للاعبيه، لكن كلوب ينجح بها مراراً وتكراراً، على عكس مدربين آخرين حينما يُشعِرُون فرقهم بالانهزام النفسي أمام بيب فيبدؤون الحديث عن كيفية التعامل مع قوتهم الهجومية الهادرة أولاً، ثم كيفية الوصول لشباكهم، مع كلوب العملية معكوسة كما يتضح من انتقائه للكلمات بعناية.

المدرب الألماني قال بعد المباراة “هذه طريقتنا في التفوق على مانشستر سيتي، ربما هناك فرق أخرى تتفوق بطرق مغايرة عنا، لكننا لا نفهم سوى هذه الطريقة، أن تتحكم بالمباراة بعض الشيء، أن تسيطر… نعم لم نسيطر بشكلٍ مثالي، لكن فعلنا ذلك بشكلٍ يرضينا”.

salah 10

 لا تطلب مني أن أكون شجاعاً بل علمني كيف أفعل ذلك!

ربما الحديث عن العامل النفسي يجعلنا نتساءل، هل يعقل أن يكون تفوق كلوب على جوارديولا ناجم فقط من قدرته على خلق فريق شجاع، يلعب لنفسه وليس للآخرين؟ في الحقيقة الإجابة بكل تأكيد “لا” ، بل من غير المنطقي قول ذلك، فالشجاعة بدون علم حقيقي تستند إليه لا تعني شيئاً، لأنك ستسقط بالضربة القاضي سريعاً حينما تهاجم دون أن تحمي وجهك.

العمل التكتيكي البارع من كلوب هو محور رئيسي يتكافل مع العامل النفسي ليصلوا بنا في نهاية المطاف إلى فهم كيفية تفوق المدرب الألماني على نظيره الإسباني.

لو أردنا الحديث عن فلسفة يورجن كلوب في لعب كرة القدم وقارناها بفلسفة بيب جوارديولا سنجد أن هناك اختلافات جوهرية بين المدرستين، صحيح أن كلاهما فريق هجومي، فريق شجاع، فريق يبادر نحو إيذاء المنافس (فنياً) قبل أن يفكر في الدفاع عن مرماه، لكن ذلك لا يعني أن طريقة التطبيق على أرض الملعب متشابهة، فكلوب ربما يكون أكثر مباشرة وأقل تعقيداً عكس بيب الذي يدقق على التفاصيل أكثر وأكثر.

في ذات الوقت، لو أردنا تفكيك فلسفة بيب جوارديولا المعروفة بـ “التيكي تاكا” والتي تعد امتداداً للكرة الشاملة التي أسسها رينوس ميتشيلز، وطورها لاحقاً يوهان كرويف ثم بييلسا، سنجد أن فلسفة بيب ترتكز على عناصر كبرى يندرج تحتها التفرعات الدقيقة.

ويمكن تلخيص العناصر الكبرى لبيب جوارديولا في 4 محاور: 1- الضغط كفريق على حامل الكرة في ملعب المنافس فور فقدانها لاستعادتها سريعاً. 2-الاستحواذ على الكرة وخلق كثافة عددية في ملعب المنافس. 3- رفع سرعة تناقل الكرة بشكلٍ مفاجئ. 4- استغلال المساحات الضيقة عبر تحركات لا يستطيع المنافس قراءتها لتوغلات اللاعبين المهاريين.

مشكلة بيب هنا أن كل عنصر في هذه العناصر يجيده فريق كلوب، بل ربما يكون فريق المدرب الألماني أفضل وأخطر في بعض العناصر الكبرى التي يرتكز إليها المدرب الإسباني في فلسفته.

مثلاً، حينما تقرر الضغط على المنافس كفريق في ملعبه، فالهدف هنا هو أن تستغل كثافتك العديدة في ملعبه إما لاستعادة الكرة ثم بناء هجمة سريعة للتسجيل، أو لتعطيل قدرة المنافس على بناء الهجمات، أي الدفاع عن المرمى لكن في ملعب الخصم.

ساديو ماني يسجل الثالث لليفربول

لكن ما الذي سيحصل لو كان المنافس يجيد البناء من الخلف بشكلٍ مثالي، بل لا يجد صعوبة كبيرة في التدرج بالكرة تحت الضغط العالي؟ نعم، هذا بالضبط ما يضرب بيب جوارديولا في مقتل دائماً، فالضغط على المنافس بكثافة عالية يعني أن فريقي سيترك الكثير من المساحات في الخلف، فلو استطاع المنافس الخروج بالكرة تحت الضغط فحينها سيجد القدرة على الوصول إلى مرماي سريعاً، خصوصاً لو امتلك اللاعبين المناسبين لاستغلال المساحات.

هذا ما حصل بالضبط في هدف ليفربول الثاني أمس، مانشستر سيتي ضغط على رجال كلوب بشكلٍ قاتل لاستعادة الكرة أو منعهم من شن الهجمات بأريحية، لكنهم اصطدموا بمنافسٍ هادئ وغير متوتر، بل أن لاعبوه (أقصد لاعبي ليفربول) تم إعدادهم للتعامل مع هذا الضغط لأنهم بالأساس فريق بارع في الانتقال من الحالة الدفاعية للحالة الهجومية بشكلٍ سريع.

إذاً تم تجريد جوارديولا من أهم أسلحته، بل تحويل هذا السلاح إلى نقطة ضعف صارخة يصعب التعامل معها، فالمساحات التي يخلقها السيتي جراء ضغطه المنظم كفريق، تجد على الضفة الأخرى لاعبون يملكون سرعة هائلة في بناء الهجمات المباشرة على مرمى المنافس، وحلول عديدة لكيفية الانتشار سريعاً في المساحات وإيصال الكرة إلى منطقة جزائه، لذلك رأينا ليفربول يتناقل الكرات الطويلة من جهة إلى أخرى، ليجد ماني وروبيرتسون المساحة للانطلاق بشكلٍ سريع، ثم يوصلون الكرة إلى محمد صلاح في المكان المناسب داخل منطقة الجزاء، لتنتهي الكرة بهدف.

هذه الحالة تكررت في العديد من المباريات بين بيب جوارديولا ويورجن كلوب، لذلك لم يكن مستغرباً أن يلعب المدرب الإسباني بأسلوبٍ متحفظ ويتخلى عن الضغط العالي في معظم فترات مواجهتي ليفربول في الموسم الماضي، وهو شيء لم يفعله بيب طوال مسيرته سوى في حالات نادرة. طبعاً بيب لم يستطع فعل ذلك أمس بسبب حاجته الماسة للانتصار.

ليس هذا فقط، الاستحواذ أيضاً الذي يطلبه جوارديولا كأحد أهم عناصر فلسفته يجيده أيضاً فريق كلوب، لذلك تشاهد صراعاً في السيطرة على الكرة باستمرار بين المدربين على أرض الملعب، وهو الصراع الذي يضر بالمدرب الإسباني أكثر بكثير مما يضر بالمدرب الألماني، وهنا يُحرم بيب من امتلاك ثاني أسلحته “تقريباً”.

أما سرعة تناقل الكرة وتحركات اللاعبين في السيتي فهذه يتعامل معها كلوب عبر الصلابة الدفاعية، تقليص المساحات، ومتابعة اللاعبين المتحركين بدون كرة بشكلٍ جيد، صحيح أن التطبيق لا يكون مثالياً، لكنه يزعج بيب كثيراً لأنه يضاف إلى عدة عوامل سبق ذكرها ترمي فلسفة جوارديولا في مقتل.

نعم، كلوب يستنزف أفكار بيب جوارديولا ثم يطرحه أرضاً ..”كِش ملك”.

حتى لا ننخدع .. جوارديولا أيضاً بارع في تدمير كلوب

رغم كل ما تم ذكره، فيجب الإقرار بنهاية المطاف وإعطاء المدرب الإسباني بيب جوارديولا حقه في هذا الصراع، فالكلام عن تفوق يورجن بشكل أكبر لا يعني بأن مدرب برشلونة سابقاً لم يتفوق على الإطلاق، بل هو وجد الحلول في عدة مرات أمام كلوب ولاعبيه، واستطاع أن يحقق عدة انتصارات رغم كل ما يواجهه من صعوبات بسبب قوة فريق المدرب الألماني بتطبيق الأفكار المضادة لفلسفته، وهو ما يؤكد أن بيب قامة عظيمة جداً، ومن هذا المنطلق بالأساس نبدي إعجابنا بنتائج كلوب أمامه، ونفند الكثير من الوقت لتحليل ذلك ومحاولة فهمه.