وجها كرة القدم: الوجه المظلم

  • Facebook
  • Twitter
  • Mail
  • Pinterest
  • LinkedIn
  • Facebook
  • Twitter
  • WhatsApp
  • Pinterest
  • LinkedIn
  • مباراة لن تنسى

    الاسبوع الماضي ناقشنا معاً كيف يمكن لكرة القدم أن تكون وسيلة ممتازة للتغيير الاجتماعي. نقاشٌ بدأناه بمقولة بيل شانكلي الشهيرة عن كون كرة القدم أكبر من مسألة حياة وموت. المدرب الإسكتلندي كان ربما يبالغ، لكن ما سأرويه لكم اليوم يثبت أن كرة القدم، لو سخرت بشكل سيء، يمكنها أن تكون حرفياً مسألة حياة وموت.

    الزمان: 13 ايار 1990

    المكان: ملعب مكسمير في زغرب (والتي كانت جزءًا من يوغسلافيا)

    طرفا المباراة: ريد ستار بلغراد في ضيافة دينامو زغرب في الدوري اليوغسلافي.

    المباراة كانت بعد اسبوع واحد من أول انتخابات تعددية في كرواتيا والتي فاز بها حزب التجمع الديمقراطي الكرواتي والذي كان حزباً قومياً يدعو للانفصال عن يوغسلافيا (الدولة الاشتراكية التي كانت تضم كل من صربيا وكرواتيا إضافة لمونتينيغرو، سلوفينيا، مقدونيا والبوسنة والهرسك)، الأمر الذي أجج الوضع السياسي المتأزم أصلاً في البلاد ولكن ذلك لم يكن على ما يبدو سبباً كافياً لإلغاء المباراة. الاشتباكات بدأت بعد صافرة البداية بقليل وسرعان ما بدا واضحاً أن مشجعي الفريقين كانوا قادمين لملعب المباراة بهدف العنف وأن العراك لم يكن عفوياً على الإطلاق. جماهير ريد ستار حطمت الجدران الفاصلة بواسطة الأدوات الثقيلة واشتبكت مع جماهير دينامو التي اجتاحت بدورها أرضية الملعب لتهاجم الشرطة اليوغسلافية التي كان يراها الكروات رمزاً للقمع الذين تعرضوا له على يد تيتو (رئيس يوغسلافيا) ونظامه. ما حصل في ملعب مكسمير في ذلك اليوم كان له أبعد كبيرة جداً. العديدون يعتبرون الحادثة الدليل الأول على الحرب الأهلية التي اجتاحت يوغسلافيا بعدها بسنة. ولكن إن كنتم تظنون أن هذه القصة هي “الوجه المظلم” لكرة القدم، فيؤسفني أن أخبركم أن لم نصل بعد للجزء المظلم من قصتنا. فهذا اليوم كان بمثابة مجرد تعريف للمجتمع الدولي بالرجل الذي سيصبح لاحقاً أحد أهم المطلوبين على لائحة الانتربول: زيلكو رزناتوفيش أو أركان كما كان يطلق عليه اتباعه.

    croatia-serbia

    أركان كان قائد التراس ريد ستار بلغراد المعروفين بإسم ديلييه (الشجعان أو الأبطال باللغة الصربية) وهي مجموعة تأسست عام 1989 تحت اشرافه من خلال توحيد مختلف مجموعات التراس النادي. أركان لم يكن رجلاً عادياً حيث قضى معظم شبابه (منذ سن الخامسة عشر) يتنقل في بلدان أوروبا الغربية يرتكب الجرائم والسرقات ويهرب من السجون. أركان كرر هذه العملية (السرقة ثم الهرب من السجن) في فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، النمسا، سويسرا، بلجيكا، هولندا، والسويد. إبان عودته إلى بلغراد، في منتصف الثمانينات، أصبح أركان أحد أهم “عملاء” وزارة الداخلية الصربية، ذات الصلات الوثيقة بنادي ريد ستار بلغراد منذ تأسيسه، وكان على علاقة شخصية برئيس صربيا سلوبودان ميلوسوفيش والذي كان يتجهز للبدء بمحاولة فرض السيطرة الصربية على كافة أقاليم يوغسلافيا، ولكنه كان بحاجة لميليشيا خاصة به وتطيع أوامره. أسهل طريقة لتجميع القوميين الصرب وتدريبهم على العنف وقتال الشوارع كان من خلال تجميع مشجعي ريد ستار. حيث أن قاعدة النادي الجماهيرية كانت مؤلفة من القوميين الصرب منذ تأسيسه (بينما تأسس الغريم الأزلي بارتيزان بلغراد على أيدي جيش تيتو ولذلك بقي مناصروه دوماً مؤيدين لبقاء يوغسلافيا كدولة موحدة). نظام ميلوسوفيش زرع أركان داخل مكاتب نادي ريد ستار ومنحه منصباً “رسمياً” كممثل للجماهير. لكن مهمة أركان الرئيسية كانت تشكيل ميليشيا ميلوسوفيش المنتظرة.

    أركان عمل ببطء وتحت غطاء “ديلييه” وأبقى الموضوع رياضياً إلى حين اندلاع الحرب الأهلية عام 1991 حين استطاع “فجأة” من تأسيس ميليشيا الحرس التطوعي الصربي أو “نمور أركان” كما كان يطلق عليهم والتي كان معظم مقاتليها أعضاءً في ديلييه. بالتأكيد، وكما تبين لكم الآن، فإن ديلييه لم تكن سوى واجهة لمخطط ميلوسوفيش لإعداد ميليشيا قومية صربية وكافة “المعارك” التي خاضتها ضد مشجعي الأندية الاخرى لم تكن سوى مباريات استعدادية. نمور أركان كانوا واحدة من أكثر الميليشيات دموية خلال الحرب الأهلية اليوغسلافية والتي كانت بدورها أكثر الحروب الأوروبية دموية منذ الحرب العالمية الثانية. جرائم أركان تضمنت الأعمال الدموية “الاعتيادية” للميلشيات كاحتلال قرى مليئة بالأشخاص العزّل ونهب بيوتهم إضافة لاحتجاز عدد كبير من الرهائن في غرف صغيرة للغاية دون تهوية ومن ثم قتل معظمهم وإعادة البقية لقراهم لبث الذعر. جرائم أركان ونموره طالت كل القوميات اليوغسلافية الاخرى ولكن مسلمي البوسنة حملوا العبء الأكبر منها.

    نهاية الجزء الأكبر من الحرب خلال منتصف التسعينيات شهدت تفكيك ميليشيا نمور أركان لكنها لم تشهد تراجع شهرة أركان في أوساط القوميين الصرب أو علاقته بكرة القدم. الرجل تحوّل إلى أحد أهم شخصيات صربيا الإعلامية والرسمية وكان محاطاً بالمعجبين أينما ذهب وكيفما تحرك. حتى أن التلفزيون الرسمي للبلاد بثّ حفل زفافه لإحدى أشهر مغنيات البلاد. أركان قرر توسيع نشاطه الرياضي فاشترى نادي اوبليش الذي كان يقبع في الدرجة الثانية وسرعان ما موّله (بالأموال التي جمعها خلال الحرب) وأوصله للفوز بلقب الدرجة الأولى بعدها بموسمين فقط. لكن الأموال لم تكن سلاح اوبليش الوحيد، فأركان كان مازال يملك مناصريه المسلحين الذين استخدمهم لإرهاب لاعبي الفرق المنافسة. ولكن هذه الخدعة كانت محدودة بحدود صربيا، فخلال الموسم التالي قابل الفريق كل من بايرن ميونخ واتليتيكو مدريد في دوري أبطال أوروبا وكأس الاتحاد الأوروبي على التوالي. ولم ينجح في تسجيل أكثر من هدف واحد في مرميهما.

    أركان بقي شخصية محبوبة في صربيا إلى حين اغتياله في بهو أحد فنادق بلغراد بعد 15 يوم على بداية الألفية الجديدة، وأغلب الروايات ترجح إلى أن ميلوسوفيش أمر باغتيال أركان كون الأخير كان يملك الكثير من الأدلة المدينة لميلوسوفيش خصوصاً وأن كلا الرجلين كان تحت تحقيق المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا (المحكمة أعلنت بعد وفاة اركان إدانته بأربع وعشرين جريمة ضد الإنسانية).

    أدرك أن كل ما سبق قد يبدو أكثر أهمية بكثير من “لعبة” كرة القدم، أو ربما لا تجدونه مناسباً لمقالة في موقع رياضي. لكن كل ما قام به أركان من جرائم حرب كان من خلال ميليشيا تطورت عن مجموعة التراس كروية. وهذا لا يعني أن كل مجموعات الالتراس سيئة أو عنيفة، لكنه دليل واضح على أن كرة القدم هي انعكاس للواقع الذي تعيش ضمنه ومرآة لشخصيات من يتحكمون بها. كرة القدم ليست “اللعبة الجميلة” القادرة دائماً على تغيير المجتمع حولها نحو الأفضل، كرة القدم ليست كذلك أداةً لتجميع القتلة وتجهيز الميليشيات. كرة القدم يمكنها أن تكون أي شيء ما بين هاتين الحالتين مادامت بين الأقدام المناسبة.

    لمتابعة الكاتب عبر الفيسبوك