حينما سمعت عن محل يبيع “قشطة بعسل” انتابتني قشعريرة ورغبة سريعة في الذهاب إليه، فكرة أن تتناول “القشطة البلدية” والممزوجة بعسل طبيعي تستحوذ وتهيمن علي مثلما هيمن برشلونة على ريال مدريد، لا أستطيع أن أقاومها بل أستسلم لها كاستسلام مورينيو متناسياً رغبتي في تخفيض الوزن أو تقليل عدد السعرات الحرارية في الطعام.

المسألة ليست بحاجة للتفكير، ركبت السيارة واتجهت مباشرة إلى قشطتي المنشودة… في أزقة السوق وبين الأعداد الكبيرة من الناس تناولت أحد الصحون ونظرت إليه كفرحة طفل بملابس العيد، وبدأت بالأكل… نعم هو لون أبيض لكنه ليس قشطة بلدية، ونعم هذا شيء حلو ولزج، ولكنه ليس عسلاً!

خيبة الأمل كانت شديدة لدرجة أنني فكرت بالمطالبة بأموالي من البائع، لكني تذكرت أنه من المحرمات في وطني التفكير باستعادة أموالك فهي تؤخذ بلا عودة، لذلك قررت الاتصال بصديق لي نصحني بتناول هذه القشطة، وبعد أن انتهيت أجابني بكل برود: “وشو المشكلة؟ “

اكتشفت منه أن فهمي هو الضيق، وإدراكي هو الضعيف، وليس ذنب المحل الذي ذهبت إليه في ذلك لأنه لم يكذب والكل يعرف أنه يقدم هذه القشطة بالعسل ورغم ذلك يذهبون إليه. القشطة التي قطعت مسافة طويلة وسط ازدحام المرور من أجلها كانت عبارة عن حليب مخلوط بالنشاء والماء، وليس خلاصة الحليب التي تطفو على السطح، والعسل عبارة عن سكر معد على النار بطريقة خاصة!

“الإسم مجازي، يعني لما تشتري أصابع زينب (نوع حلويات) إنت فعلاً بتكون مشتري أصابع بنت إسمها زينب؟ لما تشتري كرابيج حلب بتكون فعلاً كرابيج؟ وهيك القشطة بعسل… “

فكرة صديقي منطقية، ففي وطني الأردن نطلق تسميات عديدة على أمور لا تعكس جوهرها بالحقيقة (وأعتقد أنها عادة في جميع العالم العربي)، مثلاً؛ لدينا لعبة إسمها كرة القدم  ، لكنها لا تشبه في الحقيقة لعبة كرة القدم.

نسميه “ستاد لكرة القدم” أو “مدينة رياضية” لكنه ليس ستاداً! المسألة تبدأ منذ البوابة وحتى المدرجات، فعلى سبيل المثال “ستاد عمان” إن قررت الاصطفاف في الجهة المقابلة له بحي المدينة الرياضية لن تستطيع عبور الشارع بأمان لأن السيارات تأتي مسرعة باتجاه دوار المشاغل، وطبعاً أنت مجبر على الاصطفاف بالخارج لأنه لا يوجد ما يكفي من المواقف داخل الملعب ولا يوجد القدرة على ضبط الجماهير إن أرادت تكسير زجاج سيارتك في حال خسر فريقها.

WEHDAT-FAISALY

يسمونها مدينة رياضية ولا يوجد على الأقل جسر أو نفق للمشاة ينقل الجماهير والزوار بأمان إلى داخل الملعب، مثلما لا يوجد مطعم “محترم” تستطيع أن تتناول منه شيء “صحي” لتأكله وأنت متجه للمدرجات رغم أن المطاعم هي أكثر شيء منتشر في الأردن هذه الأيام.

المسألة تنتقل إلى المدرجات، فالمقاعد متسخة وأنت مطلوب منك جلب صحيفة أو كيس لتضعه تحتك لكي تجلس عليه! الطريف في الأمر أنني في أحد المرات قررت الدخول إلى الدرجة الخاصة لأرى ما هي هذه الدرجة الخاصة (سعر التذكرة يبلغ 5 أضعاف سعر تذكرة الدرجة الأولى) فأتفاجأ بأنها جزء من المدرج الرئيسي وبنفس نوعية المقاعد وهي خاصة لأنه يوجد حولك سياج حديدي فقط.

طبعاً الجماهير أيضاً ليست جماهير كرة قدم، هي أشبه بالمجموعات القادمة لساحة حرب طائفية وقبلية، الهدف هو النيل من كرامة الآخر وشتمه وليس تشجيع الفريق ومساندته والتغني بإنجازاته، حتى الشتم ليس هو الشتم الكروي الذي نعرفه، فهو نابع من أفكار عنصرية وسياسية ليس لها أي علاقة باللعبة التي نحبها.

طبعاً الاتحاد أيضاً ليس اتحاد بالمعنى المعروف عالمياً، هو عبارة عن مجموعات من الأشخاص الذين لا تعرف ما هو دورهم وما هي إضافتهم لـ كرة القدم الأردنية منذ التأسيس وحتى الآن، وداخل هذه المجموعات تنتشر آفة الواسطة والمحسوبية ممزوجة بعنصرية الجماهير أيضاً.

الأندية تكمل المعادلة، فهي عبارة عن مؤسسات لا تقوى على دفع أجور لاعبيها، وليس لديها أي قدرة على توفير فريق بعقود تمتد لموسمين، فكل موسم مطلوب من النادي أن يبدل فريق بأكمله، أما الكادر الفني فلا يستمر لأكثر من 3 أشهر. الأندية الكبرى أيضاً أنت بحاجة “لواسطة” (كوسة بالمصري) حتى تنجح بإدخال إبنك في فئاتها السنية، وقلة قليلة من ينجحون في العبور لكشوفات الأندية بدونها.

ولدينا أيضاً لاعبين ليسوا كذلك، فالتدخين أسلوب ونمط حياة للعديد منهم، والتمثيل المبالغ به وإهدار الوقت هو الفلسفة الرئيسية التي يستلهمها من اللاعب البرازيلي، أما المهارة والطموح والمثابرة والإصرار على تحقيق الذات فكلها عوامل تغيب عنه، أي أننا نملك أشخاص يركلون الكرة في الملعب لكنهم بالغالب لا يملكون أي فكرة عن المفهوم الحقيقي للاحتراف في عالم كرة القدم.

طبعاً لن أحدثكم بأن شوارعنا ينتشر فيها مواهب من أعلى طراز، لكنها بالغالب إما تندثر بسبب غياب العقلية الاحترافية، أو تقتل موهبتها في مدارس كروية لا تجيد إعداد اللاعبين للمستقبل، أو لا تصل للأندية من الأساس إما بسبب الواسطة أو بسبب عدم توفر النادي في منطقته!

المحزن بالنسبة لي أننا في الأردن نعرف القشطة الحقيقية، ونضرب الأشعار في مذاقها الطيب، مثلما نعرف العسل الحقيقي ونستلذ بأكله، إذاً لماذا نقبل بعسل وهمي وقشطة وهمية؟ إن تذوقنا الطعم الحقيقي والأصيل، فكيف نقبل بالطعم “الصيني” ؟

قال لي صديقي “في قشطة بعسل حقيقية تقدم كحلويات بالأردن، وحتى محلات العصير بستخدموها، لكن بترجع للمحل” ..

المهم؛ أخبرت صديقي أنني لن أتوقف عن تناول القشطة بالعسل حتى لو كانت “صيني” ، وأنا متأكد أنني سأجد “الدكان” الذي يبيع القشطة الأصلية البلدية في نهاية المطاف …