ما يحدث على المستطيل الأخضر طوال 90 دقيقة هو صورة مصغرة عن الحياة، والتنافس خلال المباراة يعكس كل ما يدور في نفس وعقل الإنسان من تحديات وأفكار وعواطف، لذا فهي ليست مجرد مباراة جلد مدور، بل “90 دقيقة حياة”

“فعلها جيرزي .. فعلها دوديك .. المعجزة حدثت .. ليفربول هو البطل” ، مشهد لاعبي ليفربول يركضون بجنون نحو دوديك يتراءى أمام عيني باولو مالديني وبقية لاعبي فريق آي سي ميلان.

تخفت الأصوات رويداً رويداً ويختفي المشهد، وحلم الأبطال يتبخر بهدوء في سماء إسطنبول.

أسوأ أنواع الكوابيس هي تلك التي تبقى وفية لمن تسكن رؤوسهم، تزورهم كل ليلة، بل وكل نهار، ولاعبو ميلان وجمهوره تجرعوا من تلك الكوابيس حتى الثمالة، عامان مرا على ذلك النهائي المشؤوم في ملعب أتاتورك. كل شيء كان مهيأً وقتها للفوز باللقب الأغلى، ثلاثية نظيفة في الشوط الأول، فريق يلعب بكامل نجومه وجائع للمزيد، الخصم يكاد يكون غير موجوداً في الملعب، لا ردة فعل تذكر من رفاق جيرارد. وذلك إلى أن جاءت الست دقائق المجنونة: هدف أول من ستيفن، وآخر من سميتشر، ثم ضربة الجزاء التي سجلها ألونسو والتي كانت أشبه بإصدار حكم إعدام على الروسونيري الذي لم يستوعب لاعبوه ومدربه الأمر بعد، ثم سواد قاتم ابتلع كل شيء.

في الواقع، فإن ما حصل في نهائي إسطنبول بالنسبة للميلانيين وبكل المشاعر المصاحبة له هو حدث يمكن أن يصيب أي فرد فينا، حلمك الذي لطالما انتظرته، فرصتك التي لطالما حاربت لأجلها، تقترب منك، تفتح ذراعيها لك…ولكن لتصفعك على وجهك، هي صدمة العمر إذاً.. لا يبقى أي شيء كما كان قبلها، مطلقاً.

ومهما كان نوع هذه الفرصة الكبيرة التي انتظرتها، عمل في مؤسسة مرموقة، زواج ممن أحببت، سفر تعقد عليه آمالاً كبيرة، فغالباً لن يختلف الشعور الذي يعقب صدمة ضياعها، ستشعر أن سنواتك الفائتة كانت وهماً أو سراباً، سيخيم اللون الأسود على كل ما تراه عيناك، والأهم أنك ستفقد الرغبة في القيام بأي شيء، وكل شيء، وستبدو لك وقتها عبارة “الفرصة لا تأتي مرتين” التي تعلمتها في صغرك منطقية إلى حد كبير وسيميل عقلك إلى تصديقها بشدة، ستبقى ملقى على الأرض تأن من فرط الألم.

ولكن إلى متى؟ هذا هو السؤال، إلى متى ستبقى تسترجع تلك الذكرى التي استحالت سكيناً في خاصرتك؟ إلى متى ستبقى تقول لو أنني فعلت كذا لاختلفت الأمور، وإلى متى ستخضع لضعفك وتستمر بإلقاء اللوم على الأخرين؟

أسئلة كثيرة تتبادر إلى ذهنك، هل يا ترى إن عدت مرة أخرى، سترفضني؟ يااااه، شعور الرفض هذا لا يعدله في سوئه شعور آخر، والخوف منه أسوأ لأنه يشلك تماماً، هذا الخوف القاتل يعتريك، تتحسس آثار الصفعة، زالت الآثار من وجهك لكنها لا تزال على قلبك.

ولكن رغم كل شيء، فلا خيار لك إلا أن تنهض من عثرتك تلك، ألمك هذا لا يجب أن يستمر إلى ما لا نهاية، لا بد أن تنهض لو أردت أن تتخلص من كونك “الميت الحي”، حسناً، أن تحاول ويرفضوك مرة أخرى خير ألف مرة من أن تبقى تتجرع كؤوس الندم وتقتل نفسك ببطء، إلى الأبد.

هذه الفكرة الأخيرة، هي التي مهدت الطريق الوعر للفريق الأحمر والأسود من إسطنبول إلى أثينا، هذا الطريق الطويل الذي يبلغ بحسابات المسافرين 505 كيلومتراً لكنه يعدل بحسابات أبناء كارلو أنشيلوتي قرابة 730 يوماً من الشك واليقين والألم والأمل. الآن هم مرة أخرى وجهاً لوجه مع ذات الأذنين، الحبيبة التي تمنعت بالأمس، فهل تتمنع اليوم أيضاً؟ لا نظن أن قلوبنا تحتمل هذا مرة أخرى، ولن نسمح بذلك. لا لن نُصفع مرة أخرى ولن نهان، رحل كريسبو وشيفا لكن رجلنا الليلة هو إنزاجي ولن يخذلنا، وقد كان.

إنزاجي وكاكا

إنزاجي وكاكا

إنزاجي كان بمثابة رأس حربة الحلم القديم المتجدد، بحث عن الحلم بكل طريقة واقعية كانت أم مجنونة، ولهذا فقد سجل الهدف الأول بوجهه، نعم بوجهه، ألم أقل لكم إن تحقيق الأحلام الكبرى لا يعترف بالواقعية وحدها؟ لم يكتف بذلك، لابد أن نرفع الكأس الليلة، فيليبو يضرب موعداً مع تمريرة كاكا الساحرة، تتلاقى أفكارهما عند نقطة ما بعيداً عن أعين مدافعي ليفربول، العملاق بيبي رينا أصبح الآن مجرد عقبة ضعيفة ومضحكة أمام الحلم المتنامي لحظة بعد أخرى، هدف ثان يعلن أن اللقاء المستحيل صار مشروعاً من جديد وهدف كاوت لم يكن أكثر من مجرد أداة لإضافة الإثارة على مباراة لا تفتقد الإثارة أصلاً.

أخيراً، وأخيراً، وفي مشهد أسطوري الكابيتانو مالديني يرفع الكأس الأغلى، ذات الأذنين، وجبال من الشك والأوهام تنهار من فوق أكتاف رفاقه وأكتاف كل مشجع ميلانيستا كان ينتظر، نعم أي سي ميلان هو بطل أوروبا 2007، بطل الإيمان بالنفس، وبطل العودة من بعيد وانتظار الفرصة مرة أخرى. البطل الذي أثبت للجميع “أن الفرصة تأتي مرتين”.