زين الدين زيدان

رصين، هادئ، قليل الكلام لأنه يفضّل لغة الأقدام .. ماهر، ساحر، يجيد التسديد على الطاير .. لن أقول أكثر، فقد عرفتم عمّن أتحدث، إنه زين الدين زيدان، أفضل من تحكّم بالجلد المدوّر على الإطلاق.

في عائلة مهاجرة متواضعة، قال الأب إسماعيل لابنه زين الدين “عليك أن تبذل جهدًا مضاعفًا يا ولدي لأنك من المهاجرين”. “زيزو” أخذ كلام والده على محمل الجدّ وعمل أكثر من أترابه بكثير، لكنه لم يكن يعلم حينها أنّ كرة القدم في الشارع ستجعله في يوم من الأيام أسطورة خالدة في تاريخ الساحرة المستديرة .. حطّ الولد الجزائري الأصل الرّحال في كان، ليس على السجاد الأحمر كالممثلين وإنّما على المستطيل الأخضر حيث كانت بداية الحكاية.

عام 1989، وطأت قدماه للمرة الأولى ملاعب الدرجة الأولى في فرنسا وكان يبلغ آنذاك 16 عامًا فقط .. لم تكن بدايته مثالية، فقد انتظر طويلا لتسجيل أول أهدافه في مصاف دوري النخبة في شباط 1991، إلا أنّ موهبته الفريدة ولمساته الساحرة لم تمر مرور الكرام، وسرعان ما أبدت أندية عديدة اهتمامها بالحصول على خدمات “زيزو”. انتهى الأمر بتوقيع زيدان عقدًا مع بوردو، ليلعب بجوار الهدّاف الكبير كريستوف دوغاري ويصنع هذا الثنائي المعجزات، فكلّما سجل كريستوف، كان “زيزو” صاحب التمريرة الحاسمة. تألّق هذا “الديو” أوصل بوردو إلى نهائي كأس الانترتوتو عام 1996، ليلمع نجم زيدان ويحلّق عاليًا في سماء “الفوتبول”.

أداؤه المميز سرّع من عملية انتقاله إلى اليوفي،ليفوز مع السيدة العجوز ببطولة الدوري الايطالي، لكنّ زيدان لم يستطع تتويج عطاءاته بالفوز ببطولة قارية، فبعد الفشل أمام البايرن في نهائي كأس الانترتوتو، لازمه النحس في نهائيين لدوري أبطال أوروبا عامي 97 و98 أمام بوروسيا دورتموند وريال مدريد على التوالي.. خيبة “زيزو” كانت كبيرة جدًا، لكنه وضع نصب عينيه الفوز بما هو أعظم: كأس العالم.

بعد تقديمه أداءً متذبذبًا خلال اليورو 96، أراد أن يدوّن اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ فرنسا ويصنع ما عجز عن فعله “الجنرال” بلاتيني وكتيبته… ظهر إبن “مليكا” بأبهى حلله في المباراة الأولى أمام جنوب أفريقيا، غير أنه تعمّد أذيّة لاعب سعودي في لقاء فرنسا الثاني، ما كلّفه الطرد وتغييبه عن المباراة الثالثة ضد الدنمارك ومباراة ثمن النهائي في مواجهة البارغواي.

غياب زيدان لم يمنع أبناء المدرب ايميه جاكيه من تحقيق الفوز في هاتين المباراتين، غير أنّ الزرق عانوا كثيرًا في لقاء المنتخب اللاتيني، قبل أن ينقذهم لوران بلان بالهدف الذهبي .. عودة الملهم في الربع النهائي أمام إيطاليا لم تكن مفروشة بالورود في ظلّ وجود أفضل المدافعين في العالم ضمن صفوف الطليان، لكنّ “زيزو” تلاعب بهم كما يشاء دون أن يستطيع المنتخب الفرنسي أخذ الأسبقية، ليحتكم الفريقان إلى ركلات الترجيح التي ابتسمت للديوك.

تورام أوصل فرنسا إلى النهائي أمام رونالدو ورفاقه، نهائي خلّد اسم زيدان بين الكبار إلى الأبد وجعله معشوق الشعب الفرنسي رقم واحد، حتى أنّ البعض أراد زيدان رئيسًا للجمهورية، فرأينا يافطات في الشانزليزيه بعد الانتصار الكاسح برأسيتي زيزو وهدف بيتي، كتب عليها “زيزو بريزيدان”..تاريخ 12 تموز 1998 سيبقى راسخًا في ذهن كل فرنسي مهما تقدّم به العمر.

هذا الجيل الفرنسي الذهبي لم يكتف بهذا الإنجاز الرائع، بل أراد المزيد، وهذا ما لمسه مدرب فرنسا بعد كأس العالم 98 روجيه لومير، الذي أثنى على لحمة فريقه وتعطشه لتحقيق انتصارات جديدة.

زيدان عانى بعد المونديال الفرنسي، إلا أنه عاد سنة 2000 لتقديم أروع لوحاته، كضربته الحرة التي هزّت شباك إسبانيا في ربع نهائي اليورو 2000، ومنحه فرنسا بطاقة التأهل إلى النهائي على حساب البرتغال بفضل ضربة جزاء سددها ببرودة أعصاب قلّ نظيرها، تحصّل عليها الديوك عندما كان الوقت الإضافي يلفظ أنفاسه الأخيرة.

اكتملت فرحة المبدع، بفضل سيناريو دراماتيكي في النهائي أمام إيطاليا، كان بطله “تريزيغول”.

بقي عند زيدان هدف واحد فقط وهو الظفر بدوري أبطال أوروبا، فبعد أن عجز عن تحقيق ذلك مع “البيانكونيري”، انتدبه ريال مدريد في صفقة قياسية ناهزت ال-75 مليون يورو، جعلت منه وقتها أغلى لاعب في التاريخ.

في ختام أول مواسمه في القلعة البيضاء، وجد زيدان نفسه في المباراة النهائية لدوري الأبطال للمرة الثالثة في مسيرته الحافلة بالانجازات الجماعية والفردية كحصده للكرة الذهبية عام 98 وظفره بجائزة الفيفا لأفضل لاعب في العالم أعوام 1998، 2000، و2003.. لم يفوّت الفرصة هذه المرة وصمّم على رفع الكأس صاحبة الأذنين الكبيرتين في نهاية اللقاء.. لكنّ ذلك كان يتطلّب تسجيله هدفًا خرافيًا، هدفًا قيل أنه الأجمل في تاريخ دوري الأبطال، هدفًا تعجز الكلمات عن وصفه، بتسديدة خيالية على الطاير اثر عرضية من روبرتو كارلوس.

“شكرًا زيزو” هذه العبارة لطالما رددها الفرنسيون، إلا أنني أعتقد أنّ الجميع ممتن لزيدان، فهو كان يفرحنا عندما نشاهده يراقص حبيبته المستديرة. لقد كان أشبه براقص باليه يتقن جميع الخطوات ويتحرك بسلاسة ويتحكم بالكرة كأنّها قطعة من جسده… اسألوا البرازيليين إذا لم تصدّقوا! فهو أطاح بهم مجددًا عام 2006 بعد أن لقّنهم درسًا في فنون اللعبة! “روليت”، “سومبريرو”، “كروشيه”،… كلّها أساليب للمراوغة  لا يعرف سرّها سوى زيدان… عندما تذكر إسم “زيزو”، لا يمكنك أن تنسى أنه ملك “الكونترول” فقد اشتهر بتحكمه بالكرات المستحيلة.

لن أتوقف عند تصريحات النجوم والمدربين التي أشادت به كثيرًا، فجلّهم يعتبرونه أفضل لاعب في آخر  التسعينات وبداية الألفية الثالثة، لعلّ أبرزهم روبرتو كارلوس ومايكل أوين وتييري هنري ومارتشيلو ليبي ودايفيد بيكهام.

هذا الأخير راح يتباهى أمام أصدقائه أنّ”زيزو” قال له أنه كان لديه الشرف أن يلعب بجواره لثلاث سنوات، واصفًا تلك الإشادة بإحدى أبرز لحظات مسيرته، لأنّه يرى زيدان أفضل لاعب في التاريخ…أمّا ليزارازو فوصف تمريرات مواطنه بالهبة من الله! شيراك أعرب عن احترامه وتقديره الكبيرين لزيدان، هذا منطقي جدًا فزيزو كان سبب الفرحة التي عاشها كل فرنسي خلال عهد شيراك!

في 7 ايار 2006، شكرت جماهير “السنتياغو بيرنابيو” زيدان على طريقتها “شكرًا على السحر” ورافقته كل عائلته للمرة الأولى وكان المشهد مؤثرًا جدًا… بعد عودته عن الاعتزال الدولي، بقي لزيدان مهمّة واحدة هي قيادة الديوك للمرة الأخيرة في مونديال 2006، إلا أنّ أحدًا لم يكن يتصوّر أن يفرض “الساحر” نفسه نجمًا للبطولة في عمر ال-34!

كاد أفضل لاعب في تاريخ فرنسا أن يكرّر إنجاز 98 غير أنّ ماتيراتزي استفزّه، فتحوّل الملاك إلى شيطان ونطح المدافع الإيطالي، ليسدل الستار على مسيرة رائعة قبل الأوان، ويشاهد من بعيد زملاءه يخسرون في ركلات الترجيح .. مهما حدث لن تهتزّ صورة “زيزو” في ذاكرتنا، فهو يعلّم التواضع وكيفية العمل بصمت وحب العائلة والتفاني وغيرها من القيم التي نفتقدها في هذه الأيام… نعم، سأقولها بكل فخر لأولادي وأحفادي “لقد شاهدت في صغري راقصًا يلعب كرة القدم، فيجعل كل من حوله جامدًا ومذهولا، إنه الساحر زيدان ملك وسط الميدان!”

رالف شربل

يمكنكم قراءة مقالاتي والتواصل معي على صفحتي الخاصة

تعرف على.. ما الذي يعنيه رحيل زيدان لرونالدو؟